يَحارُ المُتَطَلع الى أحوال الشعوب في منطقة الشرق الأوسط، وتَحديدًا الدول المسماة "عربية"، ويَحار المُحَلّل للخطاب السياسي والثقافي للنخب الفكرية والزعامات السياسيّة، في تعيين إرادة هذه الشعوب، أو في فهمِ أهداف أصحاب الزعامات وارباب العروش القومية، في حين ان الصورة العربية على شاشة المشهد العالمي لا تعدو عن كون هذه الدول كيانات "إنعزاليّة" تمارس خطابًا مستهلكًا او صامتًا في أحسن الأحوال.
فمن غير الانصاف والمنطق حتى ان نتكلم عن وضع "عربي" بالاطلاق، إذا لا يوجد عمليًا "واقع عربي" متفق عليه، وذلك لتعدد مصائر وغايات وأهداف وهوّيات هذه الامم التي كلها تتقمص اسم " عربي " في ظل متغيرات متسارعة تتجاوز الواقع والذات.
من حقنا أن نتساءل كأفراد شاءت الأقدار دون خيار منّا، أن نولد في هذه البقعة الجغرافية من الارض، ونُسائل المسؤولين عن اي "عربي" يقصدون وهم الذين يضيفون وصف عربي على اسماء بلدانهم، ويحشرون ذلك في دساتيرهم، ويحشون عقول ابنائهم بأنشودات قومية تمجد كل شيئ وتألهه وتنسى الإنسان!
من حقنا كلبنانيين ان نتساءل: لماذا زُجَّ لبنان في حربٍ أهلية شعواء ضروس بين ابنائه طيلة خمسة عشر عامًا، ليخرج الفرقاء وملوك المذاهب بعد (اتفاق الطائف) أواخر الثمانينيات ليعلنوا لنا ان لبنان "عربي"! هذا اللقب الذي دمرنا في حربٍ حتى انتزعناه!
وهل كان هذا التوصيف يحتاج الى شلالات دماء ووصاية دولية وصراعات محمومة وجيوش ردع عربية من اجل تكريس هوية لبنان العربية تكريسًا دستوريًَا؟؟؟
أليس من المفارقات التي تستأهل منا الدراسة الفعلية الجادة، ان اللبنانيين مثلا كرسوا عروبتهم في وقت كانت الهوية العربية قد فقدت فعاليتها وتألقها وانهارت مشاريعها ومقوماتها؟؟
فعن ايّ عربي يتكلمون؟؟ وايّ هويةٍ عربيةٍ يقصدون؟؟
وليعذرني العرب أجمعين سلفًا على تساؤلاتي، التي لا أهدف من ورائها انتقاص أحد ومهاجمة نظام بعينه، أو النيل من النماذج التي تعتبر نفسها عين الكمال والصواب! وان ماتقوم به هبة الله للامة المنكوبة! ولا اريد ان اكرر المكرر واجلد الذات التي اهترئت من كثرة جلاديها!
ولكن من حقنا عبر تساؤلاتنا الدائمة ان نخرج برؤية آن لها أن تولد تتجاوز حلول الترقيع المعهود.
أعرب نحن؟ واي عرب نريد؟
فهل نحن عربًا على طريقة جمال عبد الناصر الذي بنى للشعوب أحلامًا وردية عربية منقطعة النظير، وجيّشَ النفوس بخطابات ملتهبة، حتى تحول بنظر الكثيرين من شعوبها الى ملاك ومهدي الأمة، ما لبست ان تحطمت الخطابات على صخرة الواقع محدثة نكسة وصدمة وانجراحًا في الهوية العربية حولتها الى كائن مهتز خائف خانع؟
ام هل مصر حسني مبارك الحالية نموذجًا يحتذى، وهي التي تتزعم الانظمة الشمولية؟ وهي التي مافتئت تمد في آجال قوانيين طوارئها أعوام؟
ام هل نحن عربًا على طريقة معمر القذافي مثلا؟ الذي شغل العرب والعالم ردحًا طويلا من الزمن بشعارات وخطابات، وانتهى بليبيا المطاف ان اصبحت دولة اشبه ماتكون بشرنقة منطوية على نفسها؟
أم نحن عرب على خطى صدّام حسين؟ الذي مارس العظمة وجنونها وخاض حروبًا مدمرة تارة تجاه عدوٍّ أعجمي متخيل وتارة تجاه جارٍ عربي شقيق؟ مما دفع المنطقة الى هاوية سحقية لا نعلم حتى الان اين تنتهي! وجلب الاحتلال للعراق بعد ان مارس على شعبه شتى انواع الاستعباد؟!
ام هل نحن عربًا على طريقة الأسد "عرين العروبة " الذي أدخل البلاد في ثلاجة التاريخ منذ ستينيات القرن الفائت ولم تخرج منه حتى الان! سوريا التي عزلوها عربيا فلا سند خليجي لها ولا سند محيطي ينقذها... مما اضطرها الى مؤازرة الهمة الايرانية عونا لها؟؟؟
ام هل نحن عربًا على الطريقة الخليجية؟؟ التي حولت المنطقة الى "قواعد انتدابية "؟ ولا هم لها الا أمنها الذاتي من جارتها المقلقة!
أم هل نحن عربًا على الطريقة الصومالية؟ الصومال "العربي" الذين انفض من حوله الجميع وجعلوه نسيًا منسيًا ينمحي فيه الانسان جوعًا ويدمره الاقتتال!
القائمة طويلة يا قارئي نماذج من المحيط الى الخليج لا يعلم بها الا العليم الخبير! انظمة كلها في قمع الحرية سواء! هويات تكرس ذات متصدعة لا يمكن ان تصمد امام رحابة الحياة! فالعالم ارحب من حيزنا! والحلول أوسع من خيارات السخف والعنف!
وعلى قارعة الاحداث "العربية" نلمس محاور ثلاث نتائجها كارثية لا محالة :
المحور الاول: غياب الحريّات بالكامل بكافة اشكالها ومستوياتها بدءًا من الحريات الفكرية وصولا الى السياسية في ظل غياب تام لحقوق الانسان وقوانين المساواة حيث ان الدساتير العربية عبارة عن "كرّاسة عنصرية ".
المحور الثاني: حضور "المقدس" وانتشار الايديولوجيات وعودة التيارات الراديكالية بقوة في كل البقاع العربية المترافق مع تراجع النزعات التحريرية والفكر النهضوي في ظل بلطجة الانظمة الاستبدادية وفسادها.
المحور الثالث : تدهور التنمية وانتشار الفساد بشكل صارخ، فالسرقات في دولنا المتخلفة "على عينك يا تاجر" ولا يوجد من يجرؤ على التلميح لا التصريح.وذلك يترافق مع استنزاف الثروات و "بعزقتها" وهدرها في ظل انعدام الانتاجية، حيث بعض الشعوب العربية تعيش في فرح اقتناء الكماليات وتعتبر ذلك "تطورا"! وتنمية!... يكفي ان نعلم ان تقريرا اقتصاديا دوليا صدر مؤخرا يشير الى معدل انتاج احدى الدول الخليجية التي تصنف نفسها الاولى عالميا رفاهية وتطورا بانه "سالب"!
هذه هي وقائعنا.. وهذه هي هوياتنا "العربية "! بدون شكّ فإنّ التوجه نحن اعلان الشعارات "العروبية " الرنانة يلهب مشاعر الفرد العربي بشكل عام, ويؤجج إحساسه , الذي يستشعر من خلال مفهوم "الأمة" المتخيّلة في ذهنه, وعقليته ويرى فيه صورة "البطل " و" القائد " هذه الصورة المتخيلة ترضي "نرجسية الأمة " وتثري " الأنا العربي"، ولعل كل عَظمة عربية جنون عظمة!
بيد اننا اليوم على على مفترق طرق، نحتاج الى اعادة النظر في مفهوم الهوية والسلوك، فالمجتمعات تحتاج الى انهاض واستنهاض ولا تكون الا بالخروج من مزرعة الكيانات وثلاجة التاريخ الى الفعل الحضاري والتنمية المستدامة وبناء الانسان، فلحريتنا ابعادًا كونية تتجاوز ضيق عروبتنا، وتطوي مفهوم القومية نفسه دون ان تلغيه، فالانسان اوسع من ارض والروح لا تُحد بحيّزٍ جغرافي أبدًا.
وعندما نتجاوز بذواتنا أسر الشعارات، ووهم التراث وخرافة تاريخنا المجيد ونُحرر وعينا، عندها يتحرر الانسان داخلنا من ضيق الهوية المجتزئة الضيقة الى هوية ارحب.
أتحدث عن هوية كونية مرنة تستوعب الفروقات وتطويها هوية متسامحة فاضلة تحترم الانسان مهما كان، أتحدث عن ذلك وكأنني أجهل عمق مأساة ومعاناة "العرب"...غير أن الحقيقة أن الهوية لا تستمر حيّةً إلا إذا تجاوزت العنصرية وانطلقت الى ابعاد كونية !